في عام 1988 صدر فيلما رسوم متحركة يابانية بالتوازي في التوقيت ذاته، كلاهما أصبح أيقونة مستقبلية وكلاهما من إنتاج استوديو واحد وهو استوديو جيبلي Ghibli للرسوم المتحركة، لكنهما يقعان على طرفي النقيض في كل شيء.
الأول هو جاري توترو My Neighbor Totoro الفيلم الشهير من إخراج هاياو ميازاكي الذي أخذ منه استوديو الرسوم المتحركة الأشهر في اليابان علامته الترويجية. توتورو هو كائن ضخم محبب ذو ابتسامة مطمئنة يعيش في الغابات تتعثر به أختان متحمستان أثناء نزهة ضلا طريقهما بها، في توتورو وكما يصفه روجر ايبرت لا وجود للشر، حتى إذا اصطدمت بوحش في الغابة فإنه يتضح أنه روح طيبة تطمئن طفليتن تخافان مرض أمهما التي تتحسن مع نهاية الفيلم كذلك، جاري توترو هو أشبه بفانتازيا للأطفال والكبار حيث هنالك نور في نهاية الطريق بشكل حتمي.
ثاني الأفلام التي صدر في عام 1988 هو فيلم قبر اليراعات Grave Of The Fireflies، من إخراج إيساو تاكاهاتا، شريك هاياو ميازاكي في إنشاء الاستوديو، إذا كان توترو عالمًا بلا شر فإن قبر اليراعات هو الشر ذاته، فيلم تسبقه التحذيرات قبل المشاهدة، يصفه كثيرون بأنه أحزن ما شاهدوا في حياتهم، ربما تكون عبارة مغالية لكن اختيار وسيط الرسوم المتحركة الموجهة بشكل عام للأطفال لصياغة فيلم عن الحرب العالمية الثانية هو ما يجعل وقع وهول الصدمات أكبر، قبر اليراعات يحكي قصة مضادة لتوتورو عن طفل وأخته الصغرى يحاولون النجاة في اليابان أثناء الحرب، من دون كائن ضخم في الغابة ينامان على بطنه أو نور في النهاية، إنه ببساطة فيلم بلا أمل، يبدأ بالموت وينتهي به.
ربما يؤطر ذلك التضاد الجوهري مسيرة كل من ميازاكي وتاكاهاتا، بالطبع ليست كل أفلام ميازاكي بإشراق توترو ولا كل أفلام تاكاهاتا بقتامة قبر اليراعات، لكن هناك تضادًا في المزاج والفلسفة التي يتعامل كل منهما بها مع السينما والرسوم المتحركة على الرغم من تشابه الهموم والثيمات الرئيسية.
ميازاكي هو الاسم الأشهر صاحب أضخم وأنجح أعمال الاستوديو مثل المخطوفة بعيدًا Spirited Away 2001 وقلعة هاول المتحركة 2004 Howl's Moving Castle وغيرهم، أفلام ذات ثقل موضوعي تتسم بواقعية سحرية أخاذة، حيث كل شيء ممكن الحدوث، وعلى الرغم من رسوخها في مشكلات الواقع وتعاملها مع المشاعر الإنسانية فإنها تحتل مساحة اعتبارية في عالم يشبه الأحلام. بينما تعمل أفلام تاكاهاتا الشريك الأقل شهرة وشعبية بشكل عضوي أكثر مهما امتلأت بالخيال فإنها راسخة على الأرض، تمتلئ بنكات فاضحة ومواضيع يومية عادية، كما أنها ليست متناولة بالتحليل بقدر أفلام شريكه الأكثر شهرة وشعبية لكنها أفلام آسرة تصل إلى حد التجريد أحيانًا بصريًا وموضوعيًا، وتصنع توازنًا في إنتاجات الاستوديو من أقصى حدود الخيال لأكثر المواضيع اليومية عبورًا وغرابة.
1988 My Neighbor Totoro
Grave Of The Fireflies 1988
ولد إساو تاكاهاتا في عام 1935 ليكون الأصغر بين سبعة أطفال، عندما بلغ التسع سنوات نجا مع أهله من قصف أمريكي على مدينة أوكاياما، يمثل جيل تاكاهاتا والكثير من صناع الأفلام والفنانين اليابانيين جيلًا من ضحايا الحرب حتى مع نجاتهم منها، يغلف ذلك الرعب الوجودي من الموت والفقد تاريخهم ورؤاهم الفنية، هو جيل شهد أول قنبلة نووية في العقد الأول من حياته لذلك وجودهم على قيد الحياة هو أشبه بمعجزة صغيرة، وتوثيقهم وتعبيرهم عن ذلك التاريخ الذي لا يصبح ماضيًا أبدًا يمثل شجاعة كبيرة.
تخرج تاكاهاتا بدرجة في الأدب الفرنسي وتأثر بشكل واضح بالسينما الفرنسية سواء في الرسوم المتحركة أو الموجة الفرنسية الجديدة، لكنه وعلى عكس رفيق دربه ميازاكي لم يكن مهتمًا بالتحريك نفسه كممارسة بل كوسيط يخرجه ويكتبه، بدأ بشكل منفرد في إخراج الأفلام المبنية على حكايات أسطورية أو روايات شهيرة، عندما فشل أول أفلامه جماهيريًا «مغامرات هورس أمير الشمس» «The Great Adventure Of horus: Prince Of The Sun 1968»، استمر في صناعة الأعمال التلفزيونية، لكن مع تحرك ميازاكي لصناعة أفلام لاقت نجاحًا نقديًا وجماهيريًا، خطر لهما إنشاء استوديو تحريك خاص ومن هنا بدأ استوديو جيبلي، الذي أخرج تحته تاكاهاتا خمسة أفلام طويلة وشارك في إنتاج وإرشاد بقية أعمال الاستوديو.
إيساو تاكاهاتا وهاياو ميازاكي في مقابلة عام 1991
تظهر اهتمامات تاكاهاتا البصرية والموضوعية من بدايات أعماله قبل حتى اقترانه باستوديو جيبلي في أفلام مثل «هورس أمير الشمس» و«شي الشقية» «Chie The Brat 1981».
يمكن رؤية أسلوب تاكاهاتا الإخراجي وإدارته لفريق كبير من المحركين والرسامين والمصممين، في أول أفلامه ذي الأسلوب المبسط في عام 1968، يحكي حكاية تقليدية أشبه بحكاية الملك آرثر، ينقذ شاب قريته من وحوش مدمرة في أحداث مليئة بالمغامرات، لكن الفيلم يستخدم نبضات بصرية انطباعية من الألوان الساطعة والتجريد الحركي. في مشهد من الفيلم يتم حبس هورس في غابة مسحورة حيث تطارده رؤى وخيالات وهلاوس بصرية، يتعامل الفيلم مع تلك المفاهيم بصريًا بأسلوب يفكك اللون والشكل وينتج بصريات انطباعية أكثر منها تمثيلية، تلك الانطباعية والتجريد في التعامل مع البصريات سوف تصبح في ما بعد ميزات تاكاهاتا الأولى، فإذا تميز ميازاكي بالاهتمام المضني بكل تفصيلة حتى تصبح عوالم أفلامه على أقصى درجات الواقعية رغم انغماسها في السحر والخيال فإن افلام تاكاهاتا مجردة ومفككة، أفلام في طور التكوين، تحتفظ بأصلها في القصص المصورة وتصبح مسيرته كلها رحلة نحو الاختزال الكامل حيث تفقد التفاصيل شيئًا فشيئًا ويتبقى جوهر الأشكال.
يمكن استثناء «قبر اليراعات» فيلم تاكاهاتا الأول تحت استوديو جيبلي من وضع التجريب البصري الحر الذي يميز بقية أفلامه، ففي هذا الفيلم واقعية قاتمة حيث كل شيء مقدم كما هو، دون محاولة لتطويع الفيلم لملائمة جمهور من الأطفال أو تطويع وسيط الرسوم المتحركة اللانهائي لصنع مجازات بصرية أو خيالية.
يتكون قبر اليراعات من يوميات بطيئة ومضنية لسيتا وسوتسكو أخته الصغيرة حيث ينتقلان من مكان لآخر باحثين عن الأرز والماء والملجأ الآمن. قبر اليراعات هي رحلة في وجه الموت دون رومانسية، تبدأ بإقرار سيتا بتاريخ رحيله، ونرى الفيلم بأكمله كمقدمة لذلك الرحيل، لا يوجد دروس نتعلمها أو أهداف عليا للعيش تحت الحرب، يتعامل الفيلم مع وسيط الرسوم المتحركة مثل التصوير الحي لكنه أكثر سيولة وأكثر قابلية للتطويع، نرى الهزال الواضح على سوتسكو من قلة الطعام، كما نرى اليراعات المضيئة قصيرة الحياة تضيء الكهف الذي يتخذه الأخوان ملاذًا.
قبر اليراعات هو فيلم حرب دون بطولات عسكرية ودون تبريرات، نرى أسوأ الأوضاع الإنسانية التي عاشها تاكاهاتا نفسه من أعين طفلين أحدهما يكبر الآخر وتلقى على عاتقه مهمة الحماية بعد اختفاء الأب الطيار في عملية عسكرية والأم في قصف أمريكي.
Only Yesterday 1991
يتبع تاكاهاتا بدايته القاتمة في الاستدوديو بفيلم مختلف تمامًا شكًلا وموضوعًا ذي أسلوب سوف يكمل به حياته المهنية، «فقط البارحة» «Only yesterday 1991» هو فيلم أشبه بكتاب قصص صغير بالألوان المائية يتفتح مثل ذكريات متناثرة في عقل شابة مدينية تتوق لحياة أخرى، تقاطعها ذكريات طفولتها في رحلة ليست كبيرة أو عظيمة بل عادية إلى أبعد حد، من دون وحوش أو معجزات ومن دون مجازات، يوميات حياتية متسلسلة الواحدة بعد الأخرى وذكريات متداخلة.
يمكن وصف «فقط البارحة» بأنه فيلم شفاف، يتكون من طبقات رقيقة من الرسوم والذكريات، ومنغمس موضوعيًا في واقعية اجتماعية نادرة في صناعة الرسوم المتحركة اليايانية التي تميل لاستخدام الوسيط لخلق المستحيل، يستخدمها تاكاهاتا في خلق العادي واليومي، تستدعي تلك العادية ثاني أفلامه الطويلة شي الشقية الذي يحكي حكاية عادية لفتاة تركت أمها والدها لانعدام مسئوليته، يسرد الفيلم المغامرات اليومية لشي لقاءها بوالدتها من خلف ظهر والدها، محاولتها لتقويم أسرتها والعيش يومًا بيومه.
تتسم تلك الأفلام بواقعية أرضية حتى إذا زاحمها الخيال والتصورات السحرية فإنها متأصلة في اليومي والأرضي بشكل نادر، حتى عندما تتناول أفكارًا أكبر من الحياة اليومية مثل فيلم «بوم بوكو» «1994 Pom Poko» وهو أكثر أفلام تاكاهاتا خيالية وغرابة عن مجموعة من حيوانات الراكون القادرة على التحول لأي شكل وصيغة تثور بسبب احتلال الإنسان لأرضها واستلائه على الحقول والأودية واستبدالها بمجمعات سكنية، بوم بوكو فيلم مجنون تمامًا به دعابة فاضحة وجدية تمتزج بسخرية لاذعة.
يعود تاكاهاتا عام 1999 ليصل لذروة عادية أفلامه مستعيدًا «فقط البارحة» في فيلم «جيراننا أسرة يامادا» «My Neighbors The Yamadas»، هنا يصل تاكاهاتا للتجريد الذي سعى له معظم حياته، لا يحكي الفيلم حتى يوميات متصلة أو مستمرة بل سلسلة من الحلقات الصغيرة لأيام متناثرة في حياة أسرة، تظهر يوميات أسرة مكونة من أب وأم وجدة وولد وبنت، وتنتهي كل فقرة بقصيدة هايكو رقيقة.
يضيف تاكاهاتا على الأفلام الشفافة المتمهلة بعد أكثر من عقد آخر أفلامه الطويلة فيلم «حكاية الأميرة كاجويا» «The Tale Of The Princess Kaguya 2013» المبني على أسطورة يابانية قديمة بعنوان «حكاية قاطع البامبو»، الأميرة كاجويا فيلم خيالي لكنه ذو صيغة واقعية يومية، في مزيج ينجح بغرابة في وصل عالم الأرض بعالم السماء، حكاية كاجويا مثل عقلة الإصبع هي حكاية أميرة تولد من فرع بامبو تكبر سريعًا أمام قاطع البامبو وزوجته، تتحرك بحرية في حياتها الريفية، تختبر الحياة على الأرض لأول مرة، ربما تكون مسيرة تاكاهاتا كلها هو محاولة لقبس والتقاط الحياة على الأرض بفرحها وحزنها المتساويين في الشدة.
My Neighbors The Yamadas 1999
تصبح كاجويا جزءًا من مجموعة من الأطفال المتهورين يقفزون من على التلال، يتسلقون الأشجار ويعيشون مثل كائنات الأرض من الحشرات والحيوانات والطيور والشجر، حتى يعثر قاطع البامبو على ذهب ينهمر من سيقان البامبو يقرر والداها أنها أميرة وأنها سوف تنتقل إلى العاصمة لتعيش مثل النساء الملكيات، تنتظر زوجًا وتتعلم طرق النبل.
في ذلك القسم من الفيلم تظهر الواقعية المفرطة مجددًا، نتناسى أننا أمام قصة خرافية ومثل شعبي، نصبح أمام فتاة تختبر الأنوثة والقيود المفروضة عليها من جنسها والجنس الآخر، ماذا ترتدي وماذا تأكل وكيف تتحرك، تفقد كاجويا أهليتها على نفسها وجسدها بالكامل حتى إنها تتمنى الموت (في الفيلم يصبح ذلك التمني هو الرغبة في العودة للقمر حيث أتت)
روح تاكاهاتا الواقعية وقدرته على التعامل مع الأصل الأسطوري يجعل كاجويا تجربة كاسرة للقلب، ذات نهاية مثل بقية أفلامه لا تعطي بالًا لما يمكن اعتباره نهاية سعيدة، بجانب كونه بصريًا تمثيلًا لسعي تاكاهاتا نحو التحلل من التفاصيل بالكامل.
قرب منتصف مدة فيلم «حكاية الأميرة كاجويا» هناك مشهد يلخص نزعة تاكاهاتا التجريدية كما يؤطر مهارات صناع الفيلم ومحركيه ورساميه في جعل الداخلي خارجيًا وبصريًا، تجلس كاجويا في صومعة مغلقة مع خادمتها بينما يتحدث الرجال عنها في الخارج، يطالبون برؤيتها والتأكد من جمالها المزعوم، في تلك اللحظة تدخل الأميرة في نوبة غضب تضاهيها موسيقى جو هيسايشي الغنية، تأخذ كاجويا في الركض لمسافات تبدو بلا نهاية، تتساقط طبقات الكيمونو التي ترتديها واحدة بعد الأخرى ثم تتساقط هي حتى تصبح خطوطًا من طبقات الألوان وخربشات أقلام الفحم، تصبح جزءًا من الأشجار الجرداء حولها، وتتحلل من هيئتها البشرية.
The Tale Of The Princess Kaguya 2013
تلك المقاربة التحليلية لصناعة المشاهد هي ما يميز أفلام تاكاهاتا ويمكن تتبعها من بداية مسيرته حتى ذروتها في النهاية، بجانب تأثره بالسينما الفرنسية فإنه يدير أفلامه بمزيج من الوسائط البصرية المختلفة، يشبه «جيراننا أسرة يامادا» القصص المصورة في أسلوب رسمه وكذلك في طبيعته الحلقية، ويمكن رؤية تأثير قصص المانجا في فيلمه «شي الشقية» حيث يظهر به علامات التعبيرات على وجوه الأبطال، في «قصة الأميرة كاجويا» فإن الأسلوب الذي يتبع شكل الألوان المائية الرقيقة يميل أكثر إلى المخطوطات والمطبوعات اليابانية القديمة مما يرسخ لأسطورية وقدم القصة وتضادها مع الطابع الواقعي المتناول به.
في كل أفلامه ذات البصريات المشابهة للألوان المائية سواء تلك المنفذة بشكل يدوي أو رقمي (لتاكاهاتا نظرة أكثر تحررًا في الرسوم الرقمية من رفيقه ميازاكي) فإن ذلك الخيار يجعل الأفلام أكثر خفة وكأنها لم تكتمل بعد، بترك أطراف الإطار مفتوحة بيضاء وكأنها لن تنتهي أبدًا أو بإعطاء المتلقي انطباع أنه يقلب في صفحات دفتر رسوم لفنان يتدرب، يتعامل تاكاهاتا كمخرج مع الرسوم المتحركة كوسيط حر، سائل يجتمع به السكون والحركة.
في عام 2018 توفي إيساو تاكاهاتا متأثرًا بمرض سرطان الرئة تاركًا خلفه إرثًا من القصص والبصريات الخالدة، من أكبر الأحداث العالمية حتى أشد تفاصيل الحياة اليومية خصوصية وحميمية، في مسيرة تغطي أنواعًا متباعدة من الصيغ السينمائية والبصرية من نهايات الستينيات حتى دخول الرسوم المتحركة عصر رقمي كامل استخدمه تاكاهاتا لاستكشاف أساليب الماضي بتقنيات الحاضر، بروح دائمة الشباب مهما تقدم عمره وزحفت أيامه نحو النهاية.